تعليم وتطور

كارثة تشيرنوبل: الدرس النووي الذي غيّر مجرى التاريخ

٧٠ ألف ضحية هذا الرقم المؤسف هو عدد الذين فقدوا حياتهم مباشرة بعد تفجير قنبلة “ليتل بوي” (Little Boy) أو “الولد الصغير”، والتي تُعرف باسمها الشهير: قنبلة هيروشيما.

المأساة الأكبر أنه لم تمر أربعة أشهر بعد التفجير إلا وتخطى عدد الضحايا ١٠٠ ألف إنسان، بل ومع مرور خمس سنوات إضافية، وصلت أعداد الضحايا إلى ٣٤٠ ألف إنسان.

هل تعرف ما السبب في استمرار ارتفاع أعداد الوفيات مع الوقت؟

السبب باختصار هو التلوث الإشعاعي. فالتلوث الإشعاعي خطره يكون أكبر بكثير من التأثير المباشر للانفجار. ربما الإشعاع لا يقتل في اللحظة نفسها مثل الانفجار، لكنه مع الوقت “يصطاد” أعدادًا أكبر من الضحايا، لأنه ينتشر ويتحرك مع الهواء.

المهم أن كارثة هيروشيما الإشعاعية هذه كان سببها كتلة من المواد الإشعاعية وزنها حوالي ٦٤ كيلوجرامًا (أغلب الكتلة بالطبع كانت من اليورانيوم الذي يُعتبر أساس تصنيع القنبلة النووية).

وإذا ركزت أنني قلت ٦٤ كيلوجرامًا، فانتبه جيدًا للسؤال القادم:

تُرى، ما هو حجم الكارثة التي يمكن أن تحدث من كتلة من المواد المشعة وزنها آلاف الكيلوجرامات؟

أعتقد أنه من الأفضل ألا تحسب، لكي تستطيع إكمال هذا المقال..

الكارثة: ٢٦ أبريل ١٩٨٦

دعونا نرجع بالتاريخ إلى يوم ٢٦ أبريل من عام ١٩٨٦.

في ذلك اليوم، وبالضبط الساعة الواحدة صباحًا و٢٣ دقيقة و٤٠ ثانية بعد منتصف الليل، انفجر المفاعل النووي الرابع من مجمع المفاعلات الموجودة في مدينة “بريبيات” (Pripyat).

هذا الانفجار سيتخلد كأعنف وأقوى انفجار وتسرب إشعاعي في التاريخ.

يرجع أصل الحكاية إلى عام ١٩٧٠، خلال حقبة الاتحاد السوفيتي. في ذلك الوقت، قرر المسؤولون إنشاء محطة للطاقة النووية، والمكان الذي اختاروه كان بالقرب من مدينة “تشرنوبل” (Chernobyl) الأوكرانية.

القرار نُفذ فعلًا، وأُنشئت محطة ضخمة مساحتها ٢٢ كيلومترًا مربعًا، وعلى هذه المساحة تم بناء أربع وحدات (أي أربعة مفاعلات).

لكن بسبب البُعد النسبي (الذي يُقدر بـ ١٤ كم) بين المحطة ومدينة تشرنوبل، والذي يُعتبر بُعدًا كبيرًا خصوصًا في الأجواء الشتوية، قرر المسؤولون بناء مدينة جديدة تبعد ٣ كم فقط عن المحطة، وهي مدينة “بريبيات”.

في البداية، كان معظم من سكنوا المدينة من عائلات الأطقم الفنية في المحطة، لكن في عام ١٩٨٦، كان قد وصل عدد السكان إلى حوالي ٥٠ ألف إنسان.

بعيدًا عن هؤلاء الـ ٥٠ ألفًا، أو حتى سكان تشرنوبل المجاورة، كانت حياة نصف سكان أوروبا (على الأقل) على المحك بعد الانفجار.

فانفجار المفاعل الرابع وتسرب الإشعاع وانتشار النار كان يهدد بانفجار باقي الوحدات، بـ ١٩٠ طنًا الموجودة فيها من المواد المشعة.

٣٦ ساعة من الصمت

قبل أن أتحدث عن المأساة التي حدثت في الدقائق والساعات الأولى من الكارثة، دعونا ننتقل زمنيًا ٣٦ ساعة إلى الأمام بعد الانفجار.

فللأسف، في ذلك الوقت فقط، ستبدأ الإجراءات الصحيحة للتعامل مع الموقف.

أول شيء فعله المسؤولون هو الاعتراف بتسرب الإشعاع في بيان. كما كان من الإجراءات السليمة قرار التهجير لسكان بريبيات وتشرنوبل، بالإضافة إلى عمل “كردون أمني” (طوق أمني) على المنطقة لمسافة ٣٠ كم من جميع الجهات.

في الوقت نفسه، اتُّخذ قرار بزيادة أعداد قوات الحماية المدنية ورجال الإطفاء، لدرجة أن الأعداد وصلت إلى رقم قياسي تخطى النصف مليون فرد.

هذه الأعداد كلها كان مطلوبًا منها القيام بأكبر عملية “انتحارية” في التاريخ.

بالنسبة لكل السكان الذين تم تهجيرهم عام ١٩٨٦ من بريبيات وتشرنوبل، فإنهم لم يعودوا حتى يومنا هذا. فمنذ ذلك اليوم، تحولت المدينتان إلى “مدن أشباح”. وحتى هذه السنة (٢٠٢٥)، ما زالت المدينتان غير صالحتين للسكن الدائم.

بريبيات ما زالت مهجورة تمامًا، أما تشرنوبل، فأُنشئت فيها بعض المكاتب المؤقتة للموظفين المسؤولين عن إدارة الخطر، وكل هؤلاء الموظفين يعملون بنظام التناوب لتقليل تعرضهم للإشعاع.

“التابوت” الخرساني

بالنسبة لأهم قرار اتُّخذ بعد الـ ٣٦ ساعة، فكان إنشاء مصدّ للإشعاع. هذا المصد كان عبارة عن “تقفيلة” من كل الاتجاهات حول الوحدة الرابعة.

هذه “التقفيلة” اشتهرت بعد ذلك باسم “التابوت” (Sarcophagus)، وهي فعلًا كانت عبارة عن تابوت من الخرسانة والمواد العازلة فوق المفاعل.

أما من ناحية الاعتراف بالكارثة والإعلان عنها أخيرًا، فأوروبا أصلًا لم تكن بحاجة لذلك الاعتراف. فبعد مرور الـ ٣٦ ساعة، كان الإشعاع قد وصل إلى دول بعيدة عن مركز الكارثة، وكان هناك عدد من الدول الأوروبية يرصدون بالفعل المعدلات العالية جدًا من الإشعاع.

المعلومة المرعبة أن كمية الإشعاع التي تسربت كانت مجرد “دفعة أولى”. أما الكمية الإجمالية في المفاعلات الأربعة، فكانت تصل إلى ١٩٠ طنًا من المواد المشعة.

هذه المعلومات نزلت على الناس كأنها إعلان عن “نهاية العالم”. والكل بدأ يحسبها ويفكر: الموت سيأتيه من أين؟ هل من نسبة الإشعاع التي تسربت للغلاف الجوي وسممت الهواء؟ أم من النسبة التي تسربت لأعماق الأرض وسممت مياه الشرب؟ ناهيك عن المحاصيل الزراعية…

وقفة علمية: كيف يعمل المفاعل النووي؟

لن نجيب عن هذا السؤال الآن، لأننا سنتوقف قليلًا لنفهم بعض الأشياء، وبعدها سنعود لنكمل الحكاية.

أنا الآن سأحدثكم عن المفاعل النووي، ولكني سأعطيكم مثالًا تبسيطيًا سيسهل علينا الموضوع.

يمكنك أن تتخيل المفاعل النووي بأكمله على أنه غرفة كبيرة، وهذه الغرفة موضوع بداخلها جهاز وله باب. دعنا نعتبر هذا الجهاز (على سبيل المثال) “ثلاجة منزلية”. بالطبع، هذه الثلاجة لها باب لعزل الحرارة، وبالتالي تحتفظ بالبرودة ويُحفظ الأكل. احتفظ بهذا المثال عن المفاعل في ذهنك، وسنرجع له بعد قليل.

الآن، دعونا نفهم وظيفة المفاعل.

المفاعل هو مجرد مكان آمن لإنتاج كميات ضخمة من الطاقة النووية. إنتاج الطاقة نفسه يكون عن طريق استخدام كمية قليلة من الوقود (وهو عنصر اليورانيوم).

أي أن المفاعل هو مكان “أحرق” فيه اليورانيوم لكي تتولد حرارة. و”حرق” اليورانيوم مميز لأنه يولد حرارة عالية جدًا. هذه الطاقة الحرارية آخذها وأحولها لطاقة أشغل بها التوربينات لكي أولّد الكهرباء (بالإضافة لبعض الاستخدامات الأخرى مثل إنتاج النظائر المشعة التي تُستعمل في التطبيقات الفيزيائية والطب والصناعة والزراعة).

المشكلة أن ناتج “حرق” اليورانيوم لا يكون فقط الحرارة العالية، بل يخرج مع الحرارة كمية ضخمة من الإشعاع.

التفاعل المتسلسل (Chain Reaction)

السبب في ذلك أنني لا “أحرق” اليورانيوم بمعنى أنني أشعل فيه النار بالكبريت!

طريقة “الحرق” تكون عبارة عن “قذف” أو “ضرب” نواة ذرة اليورانيوم-٢٣٥ بالنيوترونات. هذا الأمر يتم في صورة “تفاعل متسلسل” (Chain Reaction) ومستمر.

(وصف اختياري للصورة: رسم بياني يوضح عملية الانشطار النووي المتسلسل، حيث يضرب النيوترون النواة فتنقسم وتطلق نيوترونات جديدة)

بمعنى: نيوترون حر وسريع جدًا يضرب نواة ذرة اليورانيوم، ويقسمها لنصفين، أو بالمعنى العلمي: “انشطار” للنواة.

النواة التي انشطرت هذه، تحرر النيوترونات التي كانت بداخلها ومغلقًا عليها. (أما البروتونات فلا تتحرر، وسبب عدم تحرير البروتونات يحتاج مقالًا لوحده. باختصار، يمكن القول إنه لأن البروتونات مشحونة بشحنة موجبة، فهي تستطيع التمسك بالنواة، أما النيوترونات فلأن شحنتها متعادلة، فالضربة التي تحدث تجعلها تتحرر).

المهم، بعد أن تنشطر النواة ويخرج منها نيوترونات جديدة، يجد الباحثون قد حضّروا لها نواة ذرة يورانيوم ثانية، فتخبط النيوترونات الجديدة في النواة الجديدة وتشطرها مثل الأولى. وتظل العملية تتكرر حسب كمية الأنوية الموجودة، وتُسمى بـ “التفاعل المتسلسل”.

وكل مرة تنشطر فيها النواة، يخرج منها النيوترونات، والإشعاع، والطاقة الحرارية… وهلم جرا.

هذا التفاعل يحدث داخل الجهاز الذي طلبت منك أن تعتبره “ثلاجة”. ولو أردت المسمى الحقيقي، فهو “قلب المفاعل” (Reactor Core).

إذًا، التفاعل يحدث داخل جهاز له باب، وموجود داخل غرفة. فكل نواتج التفاعل (من أشعة وحرارة) تكون في “القلب” ومغلقًا عليها.

يعني أن باب “الثلاجة” (أو غطاء القلب) هو أول عنصر أمان داخل المفاعل النووي.

وثاني عنصر أمان، هو القدرة على التحكم في التفاعل.

فلأنه تفاعل متسلسل، ويمكن أن يستمر في إنتاج الحرارة بصورة تخرج عن السيطرة، يكون هناك وسائل مختلفة للتبريد (أهمها طبعًا التبريد المائي)، بالإضافة إلى مجموعة من المبادلات الحرارية وأنظمة التحكم، والتي يكون لديها القدرة على إبطاء التفاعل أو حتى إلغائه عند اللزوم. (فعندما يريدون مثلًا إبطاء التفاعل داخل قلب المفاعل، يقومون بإدخال قضبان لجذب بعض النيوترونات وإخراجها من التفاعل).

لكن، على الرغم من كل عناصر الأمان هذه، انهار النظام بأكمله في تلك الليلة المشؤومة.

العودة إلى الحكاية: الانفجار الحراري

لنعد الآن إلى الحكاية، بعد أن فهمنا هذه “الفرشة” العلمية الجميلة التي ستوضح لنا ما سيحدث بالضبط.

المشكلة كلها بدأت بـ “انفجار حراري”.

هذا الانفجار الحراري أطاح بباب “الثلاجة”، وحرر الإشعاع والحرارة. وما حدث بعد ذلك كان من أكثر اللحظات الدرامية في التاريخ الحديث، والتي تجمع بين الجهل، والبطولة، والكوارث.

ما هو الانفجار الحراري؟

دعني أوضح لك أولًا معنى “انفجار حراري”.

ما يوضح فكرة الانفجار الحراري أكثر في المنزل هو “حلة الضغط” (البريستو) الخاصة بالطهي. هذه الحلة لو قلّ الماء فيها أو فُتحت فجأة، يزداد الضغط وتصنع “قنبلة بخار” تُطير كل ما في الحلة بالغطاء الذي عليها.

والذي حدث في “قلب المفاعل” أنه تحول بالضبط إلى “حلة ضغط” منفجرة.

باب “الثلاجة” (أو غطاء الحلة) الذي كان يحمل “الخارج”، تحرر ولم يعد له أي وجود. والسبب أن درجة الحرارة داخل القلب زادت جدًا جدًا من دون أن يشعر بها أحد.

كانت النتيجة أن التفاعل خرج عن السيطرة. كل مياه التبريد كانت تتحول إلى بخار في لحظة واحدة وتزيد المشكلة. ومع انهيار الغطاء، انتشرت الإشعاعات في الجو وتحركت مع الرياح، ناهيك عن عمود النار الذي خرج وأشعل الحرائق.

المصيبة أنه في البداية، لم يكن أحد يفهم ما حدث في قلب المفاعل. ولذلك، فعلى الرغم من وصول رجال الإطفاء بعد ١٠ دقائق، أصبحت الكارثة مضاعفة، لأن رجال الإطفاء لم يكونوا يرتدون أي معدات واقية من الإشعاع!

كانوا يرتدون فقط الخوذ العادية الخاصة بهم ومعهم معدات الحريق.

لذلك، مع مرور الوقت، بدأ الكل يشعر بالكارثة. الكل كان يعاني من أعراض التسمم الإشعاعي (الصداع، الغثيان، زغللة العين، وغيرها).

هذه الأعراض لم تكن فقط عند رجال الإطفاء والذين يعملون في المفاعل، فالعشرات في مدينة بريبيات استيقظوا من النوم، والكل جرى إلى المستشفى.

باختصار، تحول أول ليلٍ للمدينة الهادئ والبارد، إلى حالة من الرعب والهلع.

ورغم كل هذا، لم يكن قد صدر أي تحذير، ولا أحد فكر في إجلاء الناس، لدرجة أن الحياة استمرت بشكل عادي في المدينة لمدة ٣٦ ساعة! الأطفال ذهبوا للمدارس، والناس ذهبت للعمل بشكل عادي، من دون أن يبلغهم أحد بوجود كارثة إشعاعية.

والخلاصة، كما قلنا، أن الإجراءات الصحيحة بدأت بعد يوم ونصف (٣٦ ساعة كاملة) من الكارثة. حينها فقط بدأت عملية الإخلاء وبناء “التابوت” والقصة التي رويناها.

لماذا حدث كل هذا؟

السؤال البديهي هو: لماذا أصلًا ارتفعت الحرارة؟ وكيف لم يشعروا بها؟

الحكاية هذه لها ثلاثة أسباب:

١. نقص الخبرة والكفاءة للأطقم الفنية.

٢. سوء المفاعل من حيث التصميم وعدم مراعاة معايير السلامة.

٣. إجراء تجربة متهورة أثناء ظروف غير مستقرة.

هذه هي الأسباب الرئيسية الثلاثة لانفجار قلب المفاعل.

لكن غالبًا، قبل أن أكمل، ستقول لي: “توقف عندك! ما معنى نقص الخبرة وسوء التصميم؟ أليس هؤلاء مهندسين ويفهمون؟ وإذا كان الاتحاد السوفيتي لا يعرف كيف يصنع مفاعلًا، فمن الذي سيعرف؟”

“علاوة على أنك أغفلت أشياء كثيرة! لم تقل لنا: هل “التابوت” عزل الخطر تمامًا أم لا؟ نرجو الإجابة. وبالمرة، أخبرنا: ما هو الإشعاع أصلًا؟ ولماذا يضر بالجسم؟”

“وبعد ذلك، أنت قلت إنه حدث “انفجار حراري”، لكن السؤال هنا: هل كان ممكنًا أن يحدث انفجار مثل القنبلة الذرية أو الهيدروجينية؟”

“وأخيرًا، والأهم: ما هي “قدم الفيل” (Elephant’s Foot)؟ وما هي “الغابة الحمراء” (Red Forest)؟ وما هو “الكوريوم” (Corium)؟ أنت لم تذكر سيرة هذه الأشياء مطلقًا!”

رد الصديق سيكون (مؤقتًا): أنني سأتوقف هنا فعلًا.

لأن كل الأسئلة التي قلتها، لم يأتِ موعدها بعد. هذه الأسئلة وأكثر منها، هي ما سنتحدث عنه في المقال القادم إن شاء الله.

وأراكم قريبًا على خير في مقال جديد ومفيد إن شاء الله.

مقالات ذات صلة