رحلة في أعماق المجهول: أبرز الأسئلة التي ما زالت تحيّر علماء الكون

علم الكونيات أو “الكوزمولوجيا” هو علم يتمحور حول تساؤلات كبرى، بداية من كيفية نشأة الكون وتطوره وصولاً لحالته الحالية.
قبل الثورة العلمية، حاول الناس الإجابة عن هذه الأسئلة بالأساليب المتاحة وقتها، وهي الفلسفة والملاحظات المحدودة. وعلى الرغم من محدودية تلك الأساليب، تبين أن بعض هذه الأفكار كانت صحيحة، ولكن في الوقت ذاته كان الكثير منها خاطئاً.
واليوم في عصرنا هذا، وعلى الرغم من كل التطور التكنولوجي الحالي، إلا أننا عندما نفكر في إجابات لهذه الأسئلة الكبرى، لا نزال نعود للفلسفة في محاولة للوصول لإجابة مريحة.
جهز مشروبك المفضل، لأننا سننطلق في رحلة شائقة وممتعة، نشرح فيها الجزء الثاني من ملخص كتاب “المادة المعتمة والديناصورات”، ونستكشف معاً الأسئلة الستة الكبرى التي حيرت علماء الكونيات، والتي لا تزال ميكانيكا الكم عاجزة عن تفسيرها.
أهلاً وسهلاً بكم،هذا موضوع جديد على مدونة ثقافي.نت.
لماذا الفلسفة؟ حدود العلم
يعود سبب اعتماد العلماء على الفلسفة في محاولة للإجابة عن بعض الأسئلة الكبرى إلى أن العلم وحده غير كافٍ لتفسيرها. فالعلم يهتم بالأفكار التي يمكننا رصدها وإجراء التجارب عليها، بينما تهتم الفلسفة بالأسئلة التي لم نتمكن بعد من إيجاد إجابة موثوقة لها.
على سبيل المثال، من شبه المؤكد أن الكون يتوسع نحو ما بعد المجال الذي نستطيع رصده. ولو كانت سرعة الضوء محدودة بالفعل، فمع وجود التوسع الكوني سنصل في النهاية لمساحة لا يمكننا رصدها بكل تقنياتنا الحالية المتقدمة. هذه النقطة من المساحة معروفة عند الفيزيائيين باسم “الأفق الكوني” (Cosmic Horizon).
هذا المكان بالتحديد هو الذي لا ينطبق عليه العلم بأصدق أشكاله، ولا يمكن لأحد إثبات أو نفي ما يوجد خلف هذا الأفق عن طريق التجربة. وبحسب تعريفنا للعلم، فإن هذه المناطق النائية تسودها سلطة الفلسفة. وعلى الرغم من أن العلم غير قادر على الإجابة عن هذه الأسئلة، إلا أن ذلك لا يمنع العلماء الفضوليين من التفكير المستمر فيها.
السؤال الأول: لماذا يوجد شيء بدلاً من لا شيء؟
أحد هذه الأسئلة التي تتكرر كثيراً هو: لماذا يوجد في كوننا “شيء” بدلاً من “لا شيء”؟
على الرغم من أن لا أحد يعرف السبب الحقيقي، إلا أن لهذا التساؤل إجابة بديهية: لو لم يكن “الشيء” موجوداً، لما طُرح هذا السؤال من الأساس، ولما كنا أنا وأنت موجودين لنفكر فيه.
لغز المادة والمادة المضادة
لكن إذا فكرنا بعمق أكبر، سنجد سؤالاً علمياً أكثر فلسفية من سابقه: لماذا يوجد في كوننا الكثير من المادة التي تكوننا وتصنع النجوم والكواكب والنيوترونات والإلكترونات؟
على الرغم من فهمنا الكبير للمادة العادية، إلا أننا لا نفهم حتى الآن بشكل كامل سبب وجود كمية كبيرة منها.
هذه المشكلة تقودنا إلى سؤال آخر: لماذا كانت كميات المادة العادية في بداية الكون أكبر من المادة المضادة؟
على الرغم من أن النظريات الفيزيائية تخبرنا بأنه لابد من وجود جسيم مضاد لكل جسيم من المادة العادية، وخصائص الجسيمات المضادة معكوسة تماماً (مثل شحنة الإلكترون الموجبة في البوزيترون بدلاً من السالبة)، فإن المادة العادية والمادة المضادة عندما تتجمعان تفنيان بعضهما على شكل انبعاث طاقة لا شحنة لها، وذلك طبقاً لقانون حفظ الشحنة ومعادلة أينشتاين الشهيرة (E=mc^2).
وطبقاً لمعرفتنا بعلم الفلك، فمن المفترض أنه بعد أن برد الكون، كان يجب أن تتحد كل المادة المعروفة مع المادة المضادة الخاصة بها وتتلاشى على شكل طاقة. ولكن ما حدث هو أن كوننا حالياً يتكون بنسبة 5% من المادة العادية. فيا ترى، لماذا تغلبت المادة العادية على المادة المضادة؟ ولماذا صمدت المادة العادية وولدت نجوماً ومجرات ومدناً وبشراً؟ ولماذا يوجد عدم تماثل بين المادة ومضادها؟
لتفسير هذا عدم التناظر، اقترح العلماء عدة سيناريوهات عملية، ولكننا لا نعرف حتى الآن أي سيناريو هو الصحيح. وهكذا يظل عدم التناظر بين المادة والمادة المضادة أحد أهم المشاكل التي لم يستطع علم الكونيات الإجابة عنها، وهذا يبين لنا سبب عجزنا عن تفسير المادة المعتمة (المظلمة)، لأن المادة العادية ذاتها لا تزال غير مفهومة بشكل كامل.

ماذا حدث في الانفجار العظيم؟
أما السؤال الرابع الذي لم تتم الإجابة عليه فهو: ماذا حدث تحديداً خلال الانفجار العظيم؟
كما نعلم، حدث الانفجار العظيم عندما كان عمر الكون أقل من $10^{-43}$ ثانية، ولما كان حجمه $10^{-33}$ سم. غالباً ما يتبادر إلى أذهاننا أن الانفجار العظيم هو انفجار فعلي، وهذا للأسف اعتقاد خاطئ تصدره لنا الصحف الشعبية ومجلات تبسيط العلوم. الحقيقة هي أنه لم يكن انفجاراً بالمعنى الحرفي، بل مجرد توسع لتلك النقطة الصغيرة.
يعود أصل تسمية مصطلح “الانفجار العظيم” لسنة 1949، حين ابتكره عالم الفلك “فريد هويل” بشكل ساخر من النظرية، لأنه كان من مناصري فكرة أن الكون ثابت وأزلي. وبغض النظر عن موقف معارضي فكرة الانفجار العظيم (والتي أثبتت نجاحها في شرح مراحل تطور الكون بعد ميلاده)، إلا أن لا أحد يعرف ما الذي حدث في تلك اللحظة الزمنية.
ولكي نستطيع حل هذا اللغز، نحتاج إلى توحيد نظرية الكم مع النسبية العامة للخروج بنظرية “الجاذبية الكمية” (Quantum Gravity)، التي ستمكننا حينها من دراسة المسافات الضئيلة المرتبطة بذلك الوقت المبكر. وللأسف، لم يستطع أحد حتى وقتنا هذا توحيد النظريتين لدراسة العمليات الفيزيائية داخل هذا النطاق وتلك المسافات الصغيرة.
ما قبل البداية
أما عن السؤال الخامس، والذي من المستحيل أن نجيب عليه، فهو: ماذا حدث قبل لحظة الانفجار العظيم نفسه؟
كما نعرف، الانفجار العظيم هو لحظة بداية نشأة الكون، ولكن تلك النقطة الكثيفة الساخنة التي توسعت كانت موجودة وفجأة توسعت وخلقت الزمان والمكان. يظل السؤال: ماذا حدث قبل نقطة ولحظة التوسع هذه؟ وما الذي دفعها للتوسع أصلاً؟
من المفترض أن الإجابة عن سؤال كهذا ستتطلب معرفة أوسع من فهم الانفجار العظيم بحد ذاته، هذا غير أننا لا نعرف ما حدث في نفس لحظة الانفجار العظيم لكي نحاول معرفة ما حدث قبلها.
هل نعيش في أكوان متعددة؟
قبل أن تشعر بالإحباط يا صديقي، دعني أخبرك أنه من المحتمل أن نجد إجابة على هذا السؤال، ولكن الإجابة قد لا تكون مرضية بشكل كافٍ. نحن هنا أمام احتمالين: إما أن النقطة التي توسعت كانت موجودة منذ مدة زمنية لا نهائية، أو أنها بدأت في وقت محدد. والحقيقة أن الإجابتين قد يجد عقلك صعوبة في فهمهما.
دعنا نتخيل مثلاً أن الكون كان موجوداً بالفعل منذ الأزل، وكان الانفجار العظيم جزءاً منه، فحينها إما أن كوننا كان كل الموجود، أو أنه توجد أكوان أخرى كثيرة نشأت من انفجارات عظيمة خاصة بها. وبحسب سيناريو الأكوان المتعددة (Multiverse)، سيكون لدينا أكثر من نقطة متوسعة، وكل نقطة منها تحتوي على كونها الخاص وقوانينها الخاصة.
هذا الكلام يدفعنا للتفكير في ثلاثة سيناريوهات:
- إما أن كوننا بدأ مع لحظة توسع نقطة التفرد للانفجار العظيم.
- أو أن الكون موجود من أزل الزمان وبدأ مؤخراً في التوسع (وهو ما تتنبأ به نظرية الانفجار العظيم).
- أو الاحتمال الثالث، وهو أن كوننا واحد من عدة أكوان نشأت من كون متعدد كان موجوداً دائماً.
يبدو التفسير الأخير الأكثر راحة لبعض العلماء الملاحدة، لأنه يدعم فكرة عدم وجود خالق، حيث لن يكون كوننا أو عالمنا شيئاً مميزاً، وهو استنتاج مطروح منذ زمن عالم الفلك كوبرنيكس الذي أحدث ثورة وتغييراً كبيراً في علم الفلك.

فلسفة الأكوان المتعددة
السؤال السابق يوصلنا لتساؤل فلسفي خطير نحتاج للتفكير فيه بوضوح: لو كانت الأكوان المتعددة حقيقة وموجودة بالفعل؟
بصراحة، لا يمكننا الجزم بعدم وجود أكوان متعددة. أولاً، لأن تفسير العوالم المتعددة قادم من العالم “هيو إيفريت” الذي كان حلاً لمشكلة القياس التي ظهرت في عالم ميكانيكا الكم العجيب
أما السبب الثاني لعدم قدرتنا على الجزم، فهو فكرة أن أدواتنا الحالية تحكم علينا معرفتنا الكاملة بأسرار الكون من حولنا. هذا غير أنه لو تم إثبات وجود عوالم متعددة، فهذا لا يتعارض أبداً مع قوانيننا الفيزيائية، ولكن قد يواجه بعض المشاكل الفلسفية والدينية لدى بعض الناس.
ولكن فرضاً، دعنا نقول إن الأكوان المتعددة حقيقة، فيجب أن تعرف لحظتها أننا لن نستطيع إثباتها فعلياً. لأنه إذا لم يوجد شيء يسافر أسرع من سرعة الضوء، فوقتها لن نقدر على رؤية ما بعد الأفق الكوني، وسيظل دائماً ما بعد الأفق الكوني مخفياً داخل حدود ملاحظتنا. ولكن من ناحية المبدأ والعلم، يمكن للمناطق التي تقع بعد الأفق الكوني أن تحمل بداخلها أكواناً منفصلة بشكل كامل ومستقل عن كوننا.
نرى فكرة الكون المتعدد مشهورة جداً في الخيال الشعبي مثل الروايات والمسلسلات. على سبيل المثال، مؤخراً كنت أتحدث مع صديق لي وكان يؤمن بشكل كبير بحقيقة وجود نسخة منه تعيش في إحدى العوالم الموازية لنا. ولكنني أرى أنه لو كانت هذه الأكوان موجودة بالفعل، فمن غير المرجح أن تكون شبيهة بكوننا، ومن المحتمل ألا تحتوي على نفس أشكال المادة أو القوانين الفيزيائية والقوى الطبيعية الموجودة في كوننا.
علاوة على ذلك، لو تم إثبات فكرة الأكوان المتعددة، فستكون معظمها أكواناً إما تنحدر نحو الانهيار أو الانفجار، ولن تكتمل لتصنع نظاماً كاملاً مثل كوننا، ولن تعيش فترة كافية لتطور تركيبة كائنات حية. ولو نظرنا إلى كوننا، سنجد أنه يمتلك خصائص ومميزات تسمح بوجود مجرات ومجموعات شمسية ومنها الحياة.
ختاماً، دعونا ندرك أن التساؤلات الستة الفلسفية التي ناقشناها معاً هي مجرد تنبؤات فلسفية وتفكير مستمر. وعلى الرغم من أننا لم نجد إجابة لها حتى الآن، إلا أن تساؤل الأكوان المتعددة وحقيقة وجودها قد يكون قريباً جداً من الإجابة عنه. فعلى سبيل المثال، يقترح الباحثون فكرة جديدة تنادي بإمكانية وجود كون كامل من المادة المعتمة أو المظلمة موجود أمام أعيننا، وبالرغم من ذلك إلا أننا لا نتفاعل معه ولا نعرف حتى الآن ما هو. ولكن الفيزياء التجريبية والنظرية مستمرة في توسيع معرفتنا حول حقيقة وجود “الكون المعتم”، وربما نجد الإجابة قريباً. وبصراحة، اكتشاف كهذا يستحق الانتظار.
إذا وصلت بالقراءة إلى هنا، فمن المؤكد أن المقال قد نال إعجابك. لا تنسَ مشاركة المقال، وأراكم قريباً على خير في مقال جديد ومفيد إن شاء الله.



