تعليم وتطور

معضلة الوعي: اللغز الذي يتحدى العلم والعقل معًا

شعورك بدفء الشمس، وإحساسك ببرد الشتاء، فرحتك برؤية شخص تحبه، إحساسك بالأُنس في جلسة صفاء مع عائلتك أو أصدقائك أو شريك حياتك، حماسك تجاه تجربة جديدة، شعورك باليأس في منتصف طريق طويل لا تعرف هل تكمله أم تتركه، “النوستالجيا” (الحنين إلى الماضي) التي تشعر بها عندما تسمع شارة بداية عمل كرتوني كنت تشاهده وأنت صغير، طعم القهوة على لسانك… هل فكرت يا صديقي ما هو العامل المشترك بين كل ما ذكرته لك الآن؟

إنه الحياة.. إن هناك رابطاً فعلاً، رابطاً يُعد من أعظم ألغاز العلم، وهو “الوعي”.

الوعي الذي يمكننا اختزاله في تجربتك الذاتية الحية للكون من حولك، والذي بالرغم من أنه محور حياتنا وشعورنا بوجودنا حرفياً، إلا أننا نعرف عن المجرات البعيدة وأعماق المحيطات أكثر مما نعرفه عنه، لدرجة أن العلماء أطلقوا عليه “مشكلة الوعي الصعبة” أو “معضلة الوعي”.

دعونا نتعرف أكثر على هذه القصة في مقالنا اليوم على مدونة “ثقافي.نت”.

بين مشرط الجراح وغياب الألم: لمحة تاريخية

عصر النهضة، الذي كان يُعتبر النقلة والفترة الزمنية الفاصلة بين العصور الوسطى والحداثة (والمتمثل تقريباً في القرنين الخامس عشر والسادس عشر)، كان عصراً منتعشاً جداً ومتميزاً بالإنجازات في معظم المجالات والتخصصات، ومن ضمنها الطب بما يشمله من علم التشريح والتقنيات الجراحية.

لكن بالرغم من التقدم الكبير في التشريح والجراحة الذي شهده ذلك العصر، إلا أن العمليات الجراحية كانت آخر علاج ممكن أن يفكر فيه الأطباء. وهذا لم يكن خوفاً منهم من الجراحة أو لصعوبتها عليهم، لا أبداً، بل كان الموضوع مرتبطاً بطبيعة الإنسان نفسه، كونه كائناً حياً يشعر بالألم.

الحضارات القديمة مثل الحضارة المصرية والسومريين والبابليين والآشوريين والهنود والصينيين كانوا مدركين لهذا الأمر جيداً، وكانوا يراعون ألا يشعر المريض بألم أثناء العمليات الجراحية؛ فكانوا يستخدمون الأفيون والمواد المخدرة، وبعض الحضارات كانت تستخدم الضرب على الرأس حتى يفقد المريض وعيه، وغيرها من الأساليب التي كان غرضها أن ينام المريض ثم يجرون له العملية كي لا يشعر بالألم.

لكن الغريب أن في الحرب الأهلية الأمريكية ما بين سنة 1861 و 1865 (أي في زمن قريب نسبياً وليس من آلاف السنين)، كان الأطباء يستخدمون المناشير البدائية والسكاكين ليبتروا بها أطراف الجنود ويجروا لهم عمليات جراحية وهم في كامل وعيهم ويشعرون بكل شيء! ولم يكن أمام الجنود وقتها إلا أن يجزوا على أسنانهم ليتحملوا الألم.

ثورة التخدير: اكتشاف ويليام مورتون

هذا الكلام يا صديقي يطرح سؤالاً مهماً جداً: كيف مررنا بالتطور في الطب والجراحة الذي شهده عصر النهضة ووصلنا للقرن التاسع عشر، ومع ذلك يضطر الأطباء للجوء للعمليات الجراحية من غير أي تخدير وبوعي كامل من المريض؟

الحقيقة يا صديقي أن فكرة التخدير كانت معروفة فعلاً وقتها ومن قبل الحرب الأهلية في أمريكا؛ كان هناك بالفعل مواد مخدرة تُجرى عليها تجارب، وفي البداية كانت تفشل والمريض لا يتخدر، أو يتخدر لكنه يفيق في منتصف العملية.

استمر هذا الحال حتى عام 1846، حين خرج طبيب الأسنان الأمريكي “ويليام مورتون” وأعلن عن إجراء أول عملية أسنان ناجحة تحت التخدير العام باستخدام مخدر “ثنائي إيثيل الإيثر” (Diethyl ether). ومن وقتها بدأ المجتمع الطبي يستكشف مواد ناجحة أكثر في التخدير العام على البشر، لكنها لم تكن منتشرة بسبب نقص الخبرة الطبية وتأخر التكنولوجيا المطلوبة في التواصل بين المجتمع الطبي لتصنيع بعض المواد المخدرة.

ولكن بعد التجارب المعملية والتقدم العلمي والتكنولوجي، استطاع الأطباء التغلب على هذه المشكلة وتطوير مواد مخدرة أكثر كفاءة وفاعلية.

لغز الوعي: ماذا يحدث داخل عقولنا؟

بالرغم من التقدم في المواد المخدرة التي كانت تجعل المريض بالفعل يفقد وعيه وإحساسه بالألم، إلا أن الأطباء لم يكونوا يعرفوا ما الذي يحدث داخل جسم الإنسان بالضبط وهو تحت تأثير المخدر. كان هناك لغز أكبر يطوف في الخلفية، وهذا اللغز متمثل في “الوعي” نفسه: ما هو الوعي في الأساس؟ وأين يوجد؟ وكيف يحدث؟ ولماذا تجعلنا المواد المخدرة نفقده؟

كيف يعمل الألم؟ (مثال طبيب الأسنان)

في زيارتك لطبيب الأسنان، غالباً يا صديقي لو ذهبت إليه بضرس مسوس تحتاج لخلعه، أول شيء سيفعله الطبيب هو إعطاؤك حقنة مخدر ليبدأ في العملية كي لا تشعر بأي ألم أثناء عمله في أسنانك.

لو نظرنا إلى الآلية التي حدثت داخل جسمك من أول لحظة شعرت فيها بألم في ضرسك ولحد ما أخذت المخدر، سنجدها كالتالي:

عندما تتعرض الخلايا العصبية الموجودة في الأسنان لمؤثر (مثل وجود بكتيريا)، يحدث تغير في غشاء الخلايا نتيجة وجود هذا الجسم الغريب. ونتيجة لهذا التغير، تتحفز أعصاب الأسنان وتبدأ بفتح قنواتها ليدخل الصوديوم الموجود خارج الخلية إلى داخلها ويقابل البوتاسيوم. وبآلية كيميائية فيزيائية معينة، يتولد “جهد كهربي” داخل الخلية.

لن أشغلك كثيراً بتفاصيل هذه الآلية، لكنها آلية مشهورة واسمها العلمي “جهد الفعل” (Action Potential). المهم أنه يتولد جهد كهربي نتيجة تفاعل العناصر والشحنات داخل الخلية، وهذا الجهد يتسبب في نقل نبضة كهربية من الخلية العصبية للخلية التي تليها، وتظل النبضة الكهربية تنتقل من خلية للأخرى حتى تصل للدماغ وتتم معالجتها، وبعد المعالجة تبدأ أنت بالشعور بالألم في مكان الإصابة.

ماذا يفعل المخدر إذن؟

المخدر ببساطة يقوم بعمل “سد” أو حاجز بين الإشارة أو النبضة العصبية وبين الدماغ، وساعتها يمنع وصولها إليه، فلا تتم معالجتها وبالتالي لا تشعر بالألم.

وصف الصورة: مسار الإشارات العصبية من أعضاء الجسم إلى الدماغ.

المشكلة الصعبة: كيف تتحول المادة إلى شعور؟

الفكرة هنا أننا لو جئنا ونظرنا للموضوع من منظور أوسع، سنجد أن اللغز ليس في كيفية منع المخدر لوصول النبضات العصبية للدماغ، اللغز الحقيقي يكمن في كيفية تحول هذه النبضات لتجربة حية أو شعور، وهو ما نسميه “الوعي”.

كيف لمجموعة من العمليات الكيميائية والفيزيائية المادية أن تتحول لتجربة حية وشعور؟ سواء كان شعوراً بالألم، أو الحب، أو الكره، أو الطعم الحلو أو المر، أو رؤية اللون الأحمر أو الأخضر وباقي الألوان، أو الإحساس بالوجود وإدراك الذات بشكل عام؟ كيف يخرج كل هذا من جسم مادي محبوس بداخل قبو عظمي مظلم وصامت (الجمجمة)؟

ولكي تدرك يا صديقي مدى غموض وغرابة الفكرة، فالموضوع أشبه بأن تطرق على صخرة، فالصخرة تتألم وتصرخ! كيف حدث هذا؟ لا أحد يعرف، لكن الفلاسفة وعلماء النفس وعلماء الأحياء يحاولون إيجاد تفسير لها.

ديفيد تشالمرز وتقسيم مشكلات الوعي

في مؤتمر “علم الوعي” الذي أقيم في “توسان” بولاية أريزونا الأمريكية سنة 1994، صعد الفيلسوف الأسترالي “ديفيد تشالمرز” على خشبة المسرح وبدأ يتحدث عن الوعي. هذا لم يكن شيئاً جديداً، لأن الفلاسفة والعلماء يتحدثون عنه منذ آلاف السنين، لكن الفارق أن تشالمرز صاغ مصطلحين لأول مرة في التاريخ، ويُعتبران من أهم مصطلحات الفلسفة وعلم النفس وعلم الأعصاب، وهما:

  1. مشكلة الوعي الصعبة (Hard Problem of Consciousness).
  2. مشكلات الوعي السهلة (Easy Problems of Consciousness).

منذ تلك المحاضرة، قامت الدنيا في المجتمع العلمي ولم تقعد! فلاسفة وعلماء نفس وأعصاب متفقون معه ويؤيدونه في وجهة نظره، وآخرون معترضون على المصطلحات وصياغتها ورافضون لها، وفريق ثالث وقف على الحياد.

وثّق تشالمرز هذين المصطلحين رسمياً في ورقة بحثية نشرها سنة 1996 بعنوان “مواجهة مشكلة الوعي”.

ما الفرق بين المشكلتين؟

قال تشالمرز في ورقته البحثية أن مشكلتنا مع الوعي يمكن أن تُحل، أو على الأقل نقترب من الحل، في حالة اعترافنا بأن الوعي له مشكلتان:

1. المشكلة الصعبة:

وهي التي قد لا نصل لحلها أصلاً، وتتمثل في السؤال: “كيف ولماذا يمكن للعمليات الفيزيائية في الدماغ أن تؤدي لخبرة ذاتية للوعي؟”. كيف يمكن للإنسان أن يكون لديه إحساس ومشاعر وتأمل وحوار داخلي، ويقدر أن يكون لديه شعور بذاته وتجاربه الذاتية بشكل عام دوناً عن باقي الكون؟

يرى تشالمرز أننا لن نستطيع حل هذه المشكلة بأي تفسيرات مادية، وأننا يجب أن نفصل الوعي عن النظرة العلمية المادية الحالية ونحاول استكشاف نماذج جديدة تتجاوز المادية التقليدية لنصل للحل.

2. المشكلات السهلة:

هي مشاكل يرى تشالمرز أننا يمكن أن نصل لحلها بالأساليب العلمية التقليدية الموجودة حالياً (مثل التصوير بالرنين المغناطيسي للدماغ، الأشعة المقطعية، التجارب السلوكية، والدراسات النفسية).

ليست “سهلة” لأنها بسيطة، ولكن لأننا نستطيع فهمها من خلال فهم طريقة عمل الدماغ، مثل: الذاكرة، الانتباه، والتفاعل مع البيئة. وقد استطعنا بالفعل فهم الكثير منها منذ نشر ورقة تشالمرز.

[صورة اختيارية: صورة لديفيد تشالمرز أو رسم بياني يوضح الفرق بين المشاكل السهلة والصعبة]

وصف الصورة: الفيلسوف ديفيد تشالمرز.

لولا هذه الورقة البحثية، ربما كنا سنظل واقفين في مكاننا دون فهم آلية عمل الدماغ لأننا كنا سنهول من مشكلة الوعي ككل. تقسيم المشكلة شجع العلماء على اتخاذ خطوات تجاه فهم الوعي، خاصة وأنهم قبل ذلك لم يكونوا يجرون أبحاثاً تجريبية عليه تقريباً، لأنهم كانوا يرونه تجربة وخبرات ذاتية لا يمكن التعامل معها بشكل موضوعي.

الرأي المعارض: وهم المشكلة الصعبة

من أشهر الفلاسفة الذين رفضوا فكرة “مشكلة الوعي الصعبة” كفكرة وكصياغة هو الفيلسوف الأمريكي “دانييل دينيت”. يرى هذا الرجل أن الوعي مجرد نتاج للعمليات العقلية مثله مثل الذاكرة، وأننا نستطيع الوصول للغز الوعي عندما نكثف جهودنا في تحليل الدماغ والسلوك.

الحالة الوحيدة التي يقبل فيها دانييل مصطلح “المشكلة الصعبة” هي اعتبارها مجموعة من المشكلات السهلة التي عند حلها سنفهم الوعي بالكامل.

يوافقه في الرأي عالم الأعصاب “أنيل سيث”، الذي يرى أن تركيزنا على المشكلة الصعبة سيعرقل أبحاثنا على آلية عمل الدماغ.

ختاماً

وفقاً لاستطلاع رأي أجرته منصة “فيل بيبرز” (PhilPapers) المتخصصة بنشر الأبحاث الفلسفية في سنة 2020، فإن حوالي 63% من الفلاسفة الذين شملهم الاستطلاع يرون أن “مشكلة الوعي الصعبة” هي مشكلة حقيقية وموجودة بالفعل (متفقين مع رؤية تشالمرز)، وحوالي 30% منهم يرون أنها غير موجودة (متفقين مع دانييل وأنيل سيث).

الأكيد أمامنا الآن أن فهمنا للوعي محدود جداً، سواء اتفقنا أو اختلفنا مع أي رأي من الآراء.

وأنت يا صديقي، ما رأيك؟ ومع من تتفق؟ أنتظر معرفة رأيك في التعليقات.

إذا أعجبك المقال، لا تتردد في مشاركته مع أصدقائك ومتابعة مدونة “ثقافي.نت” للمزيد من المواضيع العلمية والفلسفية الشيقة.

مقالات ذات صلة