وداعاً للبرمجة التقليدية: مستقبل المبرمج في زمن الذكاء الاصطناعي

“البرمجة انتهت للأبد”، “لا تتعلموا البرمجة”؛ هذه ليست مجرد عناوين نقرؤها كل يوم، بل هو شعور يتسلل إلى نفوس أغلب المبرمجين اليوم. فحتى رئيس شركة إنفيديا (NVIDIA) صرح بأن أطفالنا يجب ألا يتعلموا البرمجة. أليس هذا هو الواقع الذي تلمسه بنفسك عندما تطلب من “تشات جي بي تي” (ChatGPT) كتابة دالة معقدة فيكتبها لك في ثلاث ثوانٍ وبدون أخطاء ظاهرة؟
إذا كنت طالباً تدرس علوم الحاسب الآن، أو مبرمجاً في بداية طريقك، أو حتى محترفاً قضى سنوات في المجال، فمن الطبيعي أن تشعر بالقلق. من الطبيعي أن تتساءل: هل كل هذا الجهد الذي بذلته سيذهب هباءً؟
في هذا المقال، سنقوم بتشريح هذا الخوف قطعة قطعة، وسنصل للحقيقة الغائبة عن الكثيرين.
الوهم الكبير: البرمجة ليست مجرد كتابة أكواد
لنتحدث بواقعية؛ يقولون إن البرمجة ماتت، وأن كل ساعة تقضيها في تعلم “بايثون” أو “جافا سكريبت” هي ساعة ضائعة، وهم على حق “جزئياً”. المشكلة تبدأ في أننا سمحنا للعالم بأن يقنعنا بأن البرمجة هي مجرد عملية كتابة أكواد (Coding)، وأن من يكتب أكواداً أطول في وقت أسرع هو الأفضل.
لو كان هذا صحيحاً، لكنا بالفعل في ورطة كبيرة، لأن الذكاء الاصطناعي أسرع منا بملايين المرات. قبل أسابيع قليلة، جربت نموذجاً جديداً وكتب لي تطبيق ويب كاملاً في أقل من ثلاث ثوانٍ. تخيل!
لكن أنا وأنت نعلم أن البرمجة لم تكن يوماً كذلك. كتابة الكود ليست إلا جزءاً صغيراً من مهنة البرمجة. البرمجة الحقيقية هي فن وعلم “اتخاذ القرارات والمقايضات” (Trade-offs):
- هي أن تختار بنية البيانات الصحيحة التي ستوفر عليك ثواني ثمينة في كل طلب.
- هي أن تقرر متى تستخدم بنية “الخدمات الموحدة” (Monolith) ومتى تتجه نحو “الخدمات المصغرة” (Microservices) وتتحمل تعقيداتها.
- هي أن تفهم بعمق لماذا قد يكون تطبيق نمط تصميم معين مثل “المنفرد” (Singleton) حلاً عبقرياً في سياق، وكارثة محققة في سياق آخر.
هذه القرارات، وهذا التفكير الهندسي العميق، هو جوهر عملنا. لطالما كانت كتابة الكود مجرد الخطوة الأخيرة لترجمة تلك القرارات إلى واقع ملموس.
الذكاء الاصطناعي: المبرمج المبتدئ الخارق
فكر في الذكاء الاصطناعي بهذا الشكل: إنه أفضل مبرمج مبتدئ (Junior Developer) يمكنك توظيفه. إنه خارق الذكاء، سريع بشكل لا يصدق، لا ينام، لا يطلب راتباً، وملم بكل لغات البرمجة والمكتبات التي سمعت بها.
يمكنك أن تطلب منه بناء مكون “React” معقد وسيفعله في ثوانٍ، أو كتابة سكريبت لمعالجة البيانات وسيقدمه لك فوراً.
لكن هذا المبرمج العبقري لديه عيبان قاتلان، لا يدرك حقيقتهما إلا من خَبِر الأمر مثلنا، وهما بالضبط ما يجعل خبرتك الإنسانية لا تقدر بثمن.

العيب الأول: العمى السياقي (Context Blindness)
الذكاء الاصطناعي يعاني مما يسمى بـ”العمى السياقي”. هو يرى ماذا يوجد في الكود أمامه، لكنه لا يفهم لماذا كُتب بهذه الطريقة، وكيف يتصل ببقية أجزاء النظام المعقدة. لهذا السبب، قدرته على تصحيح الأخطاء (Debugging) تكون سطحية للغاية.
في مؤتمر (ACM SWE 2025) حول الذكاء الاصطناعي في هندسة البرمجيات، قدم باحثون من جامعة “كارنيغي ميلون” دراسة بعنوان “السياق هو الملك: قيود نماذج اللغة الكبيرة في تحديد الأخطاء المعقدة”. قاموا باختبار أحدث النماذج على 5000 تقرير خطأ (Bug Report) من مشاريع ضخمة مثل “Kubernetes” و”PostgreSQL”.
النتائج كانت صادمة:
- معدل نجاح الذكاء الاصطناعي في إصلاح الأخطاء التي تقتصر على ملف واحد (مثل خطأ كتابي أو استخدام خاطئ لواجهة برمجية بسيطة) تجاوز 90%.
- استعد للصدمة: انهار هذا المعدل إلى أقل من 18% عند التعامل مع الأخطاء المنطقية التي تتطلب تتبع تدفق البيانات عبر أنظمة متعددة أو فهم قرارات معمارية قديمة.
لماذا هذا الفشل الذريع؟ لأنك كمبرمج خبير، أنت لا تقرا الكود فقط، بل تبني “نموذجاً ذهنياً” (Mental Model) للنظام بأكمله في عقلك. أنت تتذكر ذلك الاجتماع قبل ستة أشهر الذي قررتم فيه عدم استخدام طريقة معينة لأسباب تتعلق بالأداء. الذكاء الاصطناعي لا يمتلك هذا النموذج الذهني؛ هو يمتلك فقط النص الذي أمامه.
العيب الثاني: ذاكرة قصيرة الأمد (نافذة السياق)
كل نموذج ذكاء اصطناعي له سعة محدودة من الذاكرة التي يمكنه التعامل معها في لحظة واحدة، وتسمى “نافذة السياق” (Context Window). قد تكون 200 ألف “توكن” أو حتى مليوناً، وهذا يبدو رقماً هائلاً، لكنه لا شيء مقارنة بقاعدة كود (Codebase) لمشروع حقيقي عمره بضع سنوات. بضعة آلاف من الأسطر كافية لإشغال حيز هذا السياق، لأن النموذج لا يجب أن يتذكر الكود فقط، بل دور كل جزئية فيه وعلاقتها بالأخرى.
تقرير “Forrester Wave” الأخير وصف هذه المشكلة بأنها “تدهور السياق” (Context Degradation)، واعتبرها العائق الأول أمام استخدام الذكاء الاصطناعي في صيانة الأنظمة الأساسية في الشركات الكبرى.
ماذا يعني هذا عملياً؟
يعني أنك عندما تطلب منه تعديل ميزة في مشروعك الكبير، قد ينسى تماماً وجود واحدة أخرى تؤدي نفس الوظيفة، فيقترح عليك “إعادة اختراع العجلة”. قد يقترح حلاً يتعارض بشكل مباشر مع نمط تصميم أساسي اتفقت أنت وفريقك عليه قبل عام. بل وقد يحسن ميزة محددة، وفي الخلفية يهدم ميزتين أخريين كانتا تعملان بكفاءة. ذوو الخبرة يدركون تماماً ما أعنيه.
باختصار، هو لا يستطيع الحفاظ على الاتساق المعماري للمشروع على المدى الطويل. بناء مشروع مستمر ليس سباق سرعة، بل هو ماراثون من القرارات المتسقة. والذكاء الاصطناعي بذاكرته الانتقائية المتدهورة ليس عداء ماراثون جيد؛ إنه عداء مسافات قصيرة قوي جداً.

دورك الجديد: القائد التقني (Tech Lead)
هنا يأتي دورك. لم تعد مجرد مبرمج بفضل الذكاء الاصطناعي؛ أنت الآن أشبه بالقائد التقني (Tech Lead) أو المهندس المعماري لهذا المساعد العبقري.
لكن هل ستنجح في هذا الدور إذا لم تتعلم البرمجة؟
استعد لخبر قد لا يعجبك: ليس لديك أي فرصة للنجاح في هذا الدور الجديد بدون تعلم البرمجة بعمق.
محاولة قيادة الذكاء الاصطناعي بدون خبرة برمجية حقيقية تشبه محاولة قيادة أوركسترا سيمفونية وأنت لا تفهم أي شيء في الموسيقى. قد تلوح بالعصا، لكنك ستحصل على ضجيج ونشاز فقط.
أنت لا تحتاج فقط إلى تعلم البرمجة، بل تحتاج إلى فهمها على مستوى أعمق بكثير مما كان مطلوباً قبل خمس سنوات. لأنك ستواجه عيباً ثالثاً في الذكاء الاصطناعي، ربما هو الأخطر: الافتقار إلى الإبداع المعماري الحقيقي.
الذكاء الاصطناعي هو سيد “إعادة التركيب”. يحلل ملايين المشاريع ويستنتج الأنماط الشائعة ثم يعيد تركيبها ليقدم لك حلاً، لكنه لا يبتكر حلاً معمارياً جديداً لمشكلة فريدة لم يرَ مثلها من قبل.
من مهارة إلى سلاح استراتيجي
هنا تتحول معرفتك البرمجية من مجرد مهارة إلى سلاح استراتيجي.
- المبرمج العادي يطلب من الذكاء الاصطناعي: “اكتب لي دالة لتحديث ملف المستخدم”.
- المبرمج الخبير (أنت) يفهم أن هذه العملية في نظام موزع معقد ليست مجرد تحديث في قاعدة البيانات. قد تحتاج للتعامل مع تحديثات متزامنة، وتخزين مؤقت (Caching)، وإرسال إشعارات، وتحديث سجلات البحث.
لذلك، طلبك للذكاء الاصطناعي لن يكون ساذجاً، بل سيكون سلسلة من التوجيهات الدقيقة التي تعكس فهمك المعماري. مثلاً، ستقول له:
هل ترى الفرق؟ أنت لم تطلب منه كتابة كود، بل أعطيته مخططاً هندسياً دقيقاً. معرفتك بأنماط التصميم المتقدمة هي التي سمحت لك بتفكيك مشكلة معقدة إلى أجزاء صغيرة يمكن للذكاء الاصطناعي تنفيذها بكفاءة.
مشكلة الـ 1% المتبقية
الذكاء الاصطناعي سيقدم لك كوداً يبدو صحيحاً ويعمل في 99% من الحالات، لكنه قد يترك خلفه “شبحاً” في الـ 1% المتبقية: خطأ تسابق (Race Condition) خفي، أو تسرب ذاكرة (Memory Leak) دقيق، أو ثغرة أمنية ناتجة عن عدم فهمه للسياق.
أنت بخبرتك، عندما تنظر إلى الكود، ستتوقف عيناك فوراً عند تلك الدالة التي تعدل متغيراً مشتركاً بدون قفل، أو تلك الحلقة التي قد لا تنهي عملها في حال حدوث خطأ في الشبكة. قدرتك على اكتشاف وإصلاح هذا النوع من الأخطاء العميقة هي ما يفصل بين مشروع ناجح ومستقر، ومشروع ينهار بشكل غامض في أوقات الذروة.
الخلاصة: أنت السائق، وهو المحرك
العلاقة الجديدة بسيطة: الذكاء الاصطناعي هو محرك سيارة السباق، لكنك أنت السائق الخبير الذي يعرف متى يضغط على الوقود، ومتى يستخدم المكابح، وكيف يأخذ المنعطفات الصعبة بأقصى سرعة ممكنة دون أن يفقد السيطرة. المحرك وحده لا يفوز بالسباق.
لنكن واقعيين، الذكاء الاصطناعي عندما يولد لك كوداً، فهو لا يقدم لك “حلاً”، بل يقدم لك “فرضية”. فرضية مكتوبة بشكل جيد غالباً، لكنها تظل فرضية. ومهمتك كخبير هي اختبار هذه الفرضية، وتنفيذها، وإثباتها.
باختصار: بدون تبني الذكاء الاصطناعي لن تصمد كمبرمج، لأن الذكاء الاصطناعي لن يستبدل المبرمجين. اطمئن، لن يستبدلك. من سيستبدلك هو زميلك المبرمج الذي يستطيع بقدرته على تسخير الذكاء الاصطناعي أن يقوم بعملك أو بعمل عشرة مبرمجين آخرين.
المستقبل ليس لمن يستطيع أن يطلب من الذكاء الاصطناعي كتابة بضعة أكواد، المستقبل لمن يستطيع أن



